المعتقل الاختياري الجديد


لندن .. الجمعة 5 سبتمبر سنــة 1980 :

اكتشفت آخر الليل أني كنت جالساً طول اليوم أمام التليفزيون لم أفعل شيئاً سوى الحملقة في الشاشة الصغيرة التي ظلَت تستدرجني من برنامج إلى برنامج ..
من فيلم إلى رقصة ، إلى أغنية إلى ندوة ، إلى خبر ، إلى استعراض ، إلى سيمفوني ، إلى ماتش ، إلى مسرحية ، إلى قصيدة ..
حتى منتصف الليل و أنا في سريري معتقَلاً باختياري .. بل ربما أكثر قليلاً من مجرد مُعتقَل ..
فقد كنت طول الوقت معتقَل الحركة أيضاً .. معتقَل الحواس ..
سجين الانتباه في شاشة عرضها 22 بوصة لا أستطيع منها فِكاكاً .
و حينما كان السلام الملكي البريطاني يعزف لحن الختام كنت أمسح عيني و أتساءل عن تأثير هذا الجهاز السحري العجيب الذي قلب جميع الموازين ..
فالتليفزيون الجيد أصبح تأثيره الآن عكس تأثير الكتاب الجيد ..
فيعتقل الإنسان الذي يشاهده .. يعتقل جوارحه .. و يعتقل خيالـــه .. و يُقيد يديه و رجليه .
و ساءلت نفسي .. تُرى هل هذه هي المعتقلات الاختيارية الجديدة التي توضع فيها المجتمعات العصرية حيث يغسل مخها بالأغاني و الرقصات و أفلام العنف و مشاهد الجنس ، ثم تُعبَأ بالتوجيهات المطلوبة و الدعايات المرغوبة .
و أي نوعية من الأجيال الجديدة يمكن أن تُخرجها هذه الجامعات التليفزيونية الأمريكية ..
لا أظن أنها يمكن أن تُخرِج النوعية القديمة من الشباب الذي حارب و أقام إمبراطورية ..
و لا أظن أن الأجيال الجديدة في أوروبا يمكن أن تحارب بحماس من أجل أية قضية .. فالشباب رخو مُرفَه .. و هو بعد عمل مرهق طول الأسبوع لا يفكر إلا في صحبة ممتعة و حضن دافئ و كأس مترعة يُغرِق فيها عطلة نهاية الأسبوع .

د. مصطفى محمود . .
من كتاب / من أمريكا إلى الشاطئ الآخر