تفسير سورة الفيل بمنظور واقعي


قال الله تعالى في سورة الفيل :
}أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ % أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ % 
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ % تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ % فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ {


المقدمة
الحمد لله الرحمن ، علم بالقلم ، علم البيان ، علم الإنسان ما لم يعلم ، أنزل خير كتبه عربياً ، على النبي الأمي العربي خير أنبيائه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين 
أما بعد ، فإن علم التفسير من أشرف العلوم ؛ لأنه يتعلق ببيان كلام رب السموات والأرض ، الذي هو أشرف كلام ، وأعلاه وأجله ، وقد أردت أن أنخرط في سلك هذا العلم ، وأحوز شرف بيان كلام الرب ، وأسأل الله سبحانه أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون من الخير المقدم بين يدي يوم ألقاه ، وأن يكون شافعاً لي يوم العرض الأكبر .
وتأتي أهمية هذا البحث لكثرة فائدته من قبل عامة الناس , عالمهم وجاهلهم , صغيرهم وكبيرهم , ذكرهم وأنثاهم , فالجميع بحاجة إلى معرفة معنى الآيات التي يتلونها .
وقد تطرقت في بحثي هذا إلى تفسير سورة الفيل وبيان معنى الآيات وإعرابها وأحكامها ودلائلها وما يستنبط منها من أحكام وعبر , والإنسياق بالقصة التاريخية الشيقة والتي تظهر لنا مدى حرمة بيت الله الحرام وقدسيته منذ الأزل إلى أن تقوم الساعة , مستنداً في ذلك كله إلى المصادر الأساسية في البحث العلمي المرموق والموثوق .
والله ولي التوفيق

التعريف بالسورة

-سورة مكية
-من المفصل .
-آياتها 5 , وهي 96 حرفاً ، و 20 كلمة
-ترتيبها بالمصحف الخامسة بعد المائة
-نزلت بعد سورة الكافرون
-تبدأ بأسلوب استفهام " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل 
-لم يذكر لفظ الجلالة في السورة
-تقع في الجزء (30) ـ الحزب ( 60) ـ الربع ( 8) .
-ومضةعن عاصم عن زر عن أُبيّ قال : قال رسول اللّه r : 
}من قرأ سورة الفيل عافاه اللّه عزّوجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ{


المفردات الغريبة ([1])

ألم تر كيف فعل ربكأي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل .
بأصحاب الفيلأي محمود وهي أكبرها ومعه اثنا عشر فيلاً وصاحبها أبرهة.
والْفِيل حيوان من أضخم الحيوانات له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به ، ويجمع على أفيال وفيلة وفيول ومؤنثه فيلة ، والفيل أيضا : الخسيس الثقيل .

ألم يجعل كيدهمأي تآمرهم في هدم الكعبة .
في تضليلأي في خسار وهلاك .
أَبابِيلَقال ابن خالويه : « أبابيل نعت للطير أي جماعات واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل ، وقال أبو جعفر الرؤاسي : واحدتها إبّيل وقال آخرون : أبابيل لا واحد لها ومثلها أساطير وذهب القوم شماطيط وعبابيد وعباديد كل ذلك لم يسمع واحده وقال آخرون : واحد الأساطير أسطورة سِجِّيلٍطين مطبوخ محرق كالآجر ، وسجيلكلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان:حجر وطين .أو حجارة ملوثة بالطين .
كعصف مأكولأي كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها .
وقدورد خلاف في تفسير العصف على أقوال

1- ورق الحنطة ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
2- التبن ، عن قتادة من طريق معمر
3- كزرع مأكول ، عن الضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، وقال : "ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار روثاً" .
4- قشر البر الذي يكون فوق الجنة ، عن ابن عباس من طريق العوفي .

ويظهر من أصل مادة عصف :أن العصف هو ما يعصف ، أي : يحطم من الزرع ، وهذا الوصف يشمل جميع ما قاله السلف ، فتكون أقوالهم أشبه بالأمثلة لشيء من النبات المعصوف والله أعلم .


إعراب الآيات وبيان أوجه البلاغة ([2])

كيفاسم استفهام في محل نصب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني قال وعندي بأنها تأتي في هذا النوع مفعولاً مطلقاً أيضاً وإن منهكيف فعل ربك إذ المعنى « أي فعل فعل ربك ولا يتجه فيه أن يكون حالاً من الفاعل » أي وهو ربك لأنه يقتضي أن الفاعل وهو الرب متّصف بالكيفيات والأحوال لأن المعنى فعل ربك حال كونه على أي حالة وكيفية واتصافه بها محال والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعولي تر لأن الرؤية قلبية تفيد العلم الضروري المساوي في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان ، 

بأصحاب الفيلمتعلقان بفعل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو يعود على اللّه تعالى وكيدهم مفعول به أول وفي تضليل في موضع المفعول الثاني 

وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَالواو حرف عطف وأرسل عطف على ألم نجعل لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعليهم متعلقان بأرسل وطيراً مفعول به وأبابيل نعت لطيراً لأنه اسم جمع

تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ :الجملة نعت ثان لطيراً وترميهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبحجارة متعلقان بترميهم ومن سجّيل نعت لحجارة 

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍالفاء عاطفة وجعلهم فعل ماض وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وكعصف في موضع المفعول الثاني ومأكول نعت لعصف .

المعنى الإجمالي للآيات ([3])

تحكي هذه السورة قصة أبرهة الحبشي الذي جاء لهدم الكعبة في العام الذي ولد فيه النبي r ، وتذكر ما حصل لهم من العقاب .
قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل*ألم يجعل كيدهم في تضليل} ؛أيألم تعلم بما صنعه الله بأبرهة وقومه الذين غزو مكة بجيش فيه أفيال ، وأرادوا أن يهدموا الكعبة ؟ ، لقد جعل الله سعيهم وتدبيرهم في صرف الناس عن الكعبة ومحاولة هدمها عملا ضائعاً لا فائدة فيه
قوله{وأرسل عليهم طيرا أبابيل*ترميهم بحجرة من سجيل*فجعلهم كعصف مأكول} ؛ أيوألم تعلم بما عاقبهم به من بعث طيور من السماء جاءت جماعات كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضاً ، تحمل حصى صغيرة من طين([4]) ، تلقيه على أصحاب الفيل ، ، فتقضي عليهم ، حتى صاروا كبقايا الزرع المأكول الذي تحول بعد الخضرة والنصرة ، إلى أن صار ملقى على الأرض يداس بالأقدام ؟ .

قصة الآيات وسبب نزولها ([5])

هذه الآيات تضمنت الحديث عن حادث جلل وقع أمام ولادة النبي r وخلاصته أن أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحبشة قد رأى أن يبني بيتاً في صنعاء اليمن يدعو العرب إلى حجة بدل حجهم البيت الحرام والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن وعرض هذا على الملك الحبشي فوافق وسره ذلك ولما بني البيت " الكنيسة " وسماها القُلَّيْس لم يبن مثلها في تاريخها جاء رجل قرشي فتغوط فيها ولطخ جدرانها بالعذرة غَصْباً منه، وذهب فلما رآها أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غيظاً وجهز جيشاً لغزو مكة وهدم الكعبة وكان معه ثلاثة عشر فيلاً ومن بينها فيل يدعى محمود وهو أكبرها وساروا ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه حتى انتهوا إلى قرب مكة وجرت سفارة بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بين هاشم جد النبي r وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب ثم هو وشأنه بالكعبة وأمر رجال مكة أن يخلو البلد ويلتحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي والظالم، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر وهو في وسط الوادي سائر وإذا بفرق من الطير فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش حجارة الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحكم وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب وتناثر لحمه فهلكوا وفر أبرهة ولحمه يتناثر فهلك في الطريق وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم .


وفي الصحيحين أن رسول الله r قال يوم فتح مكة} إن الله حبس عن مكة الفيلوسلطعليها رسوله والمؤمنين , وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألافليبلغالشاهد الغائب { , فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .

المعنى التفصيلي للآيات ([6])

قوله تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) :

يخاطب الله تعالى رسوله r مذكراً إياه بفعله في حقبة من قوة أبرهة أبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد ولا تحمل لهؤلاء الأعداء هماً فإِن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة والاعتبار

وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيهإلىدلالته العظيمة . فالحادث كان معروفاً للعرب ومشهوراً عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأتاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعدعامالفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله r كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذنفلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه ,المقصودبه ما وراء هذا التذكير . .


قوله تعالى (ألم يجعل كيدهم في تضليل)   :

أي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا وحرمنا في خسارة وضلال فلم يجنوا إلا الخزي والدمار .

ولعله كان بهذا يذكر قريشاً بنعمته عليهم فيحمايةهذا البيت وصيانته , في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيلالأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهموعجزهم , كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد r والقلةالمؤمنةمعه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته ; فلعلهيحطمالأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .

قوله تعالى (وأرسل عليهم طيراً أبابيل) :

أي جماعات جماعات كانت تشاهد وهي تخرج من البحر يشاهدها رجال مكة المعتصمون بقمم الجبال إذ تمر فوقهم وهي تحمل حجارة من سجيل كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة والعدسة واحدة بمناقره واثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتفتت لحومهم وتتناثر فجعلهم كعصف مأكول أي كزرع دخلته ماشية فأكلت عصفه أي ورقه وكسرت ثائمة وهشمته فكانت آية من آيات الله تعالى .

وتختلفالروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبةظهرافي هذا العام في مكة .
ويرىالذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونيةالمألوفةتعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأنالطيرقد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير .
قالالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم:

"وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة: وهو أولجدريظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث:إن أول ما رؤيت الحصبة والجدريببلادالعرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهميتناثرويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمهقطعةقطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء" .

"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورةالكريمةأن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيشبواسطةفرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح" .
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعضالأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلقبأرجلهذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التيتنتهيبإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظمجنودالله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير - الذييسمونهالآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامةرؤوسالجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصةبه , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
"وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدمالبيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكتهوأهلكتقومه , قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم -حفظاًلبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه r وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائهأصحابالفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه" .
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبولهإلابتأويل , إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهوأضخمحيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدركبالبصر , حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! " .
ونحنلا نرى أن هذه الصورة التي افترضهاالاستاذالإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءتبهابعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزقالأجسادفتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو(العصف). . لا نرى أن هذه الصورة أو تلكأدلعلى قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكانالوقوع .ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنةالمألوفةللناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد اللهإهلاكهمأو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوفلعلمهم , فحققت قدره ذاك .
إنسنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة اللهإلاطرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهمومداركهمفي الزمن الطويل , فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنهاخوارقبالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومنثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أوكانفي النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوفالناسومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقلوقعاًولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي فيحقيقتهاخارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهيمعهودةكل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أنيجرب ! وإن تسليط طير - كائناً ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدريوالحصبةوإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , فياللحظةالتي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بلعدةخوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة منأنيرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأمافي هذا الحادث بالذات , فأميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساسالخارقةغير المعهودة , وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناكحاجةإلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيراً , نجد له نظائرفيمواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غيرمعهودة , تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود . .
وأميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جوالسورةوملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه -يريدبهذا البيت أمراً . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً ; وليكون نقطةتجمعللعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحدمنخارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذاالحادثعبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريشبعدالبعثة في هذه السورة , ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . .فممايتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكلمقوماتهوبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادثهوفي ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصةأن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسامالجيشوقائده ,فإنالجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضواوأنملةأنملة , ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذهالصورة هي التي يوحي بها النص القرآني:(فجعلهم كعصف مأكول). . إيحاءً مباشراًقريباً . 
وروايةعكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصاً في أن الجيش أصيب بالجدري . فهيلاتزيد على أن تقول:إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد فيأقوالهماأية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيشعلىهذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطيرتقصدالجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورةمعينةلمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوفأنسبلجو الحادث كله ?!
فالقرآن يرد الناس إلى سنناللهالكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهرالمتناثرة . 
فأماكيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة:{ وأرسل عليهم طيراأبابيل , ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول }: الأبابيل: الجماعات .
وسجيل :كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين .والعصف:الجاف من ورق الشجر .
ووصفه بأنه مأكول: أي فتيت طحين ! حين تأكله الحشراتوتمزقه , أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعلهذهالأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير . ولا ضرورة لتأويلها بأنهاتصويرلحالهلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .

ماترشدنا إليه الآيات([7])

1 - تسلية رسول الله r عما يلاقيه من ظلم كفار قريش .

2 - تذكير قريش بفعل الله عز وجل تخويفاً لهم وترهيباً .

3 - مظاهر قدرة الله تعالى في تدبيره لخلقه وبطشه بأعدائه .

4 - هذا التدخل من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام كيتبادرقريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول r وألايكوناعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام !وهذاالتذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم , والتعجيب من موقفهمالعنيد !

5 - توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أنيحطمواالبيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه , والمشركونهمسدنته . ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين , مصونا من كيد الكائدين .وليحفظلهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة , لا يهيمنعليهاسلطان , ولا يطغى فيها طاغية , ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن علىالأديانوعلى العباد , ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيتهولدينهقبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !
ونحننستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن , إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرةماكرةترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية , ولا تنيأوتهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمىبيتهمن أهل الكتاب وسدنته مشركون , سيحفظه إن شاء الله , ويحفظ مدينة رسوله rمن كيدالكائدينومكر الماكرين !
6 - العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيانقبلالإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقومهناكأحياناً تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم , والقبائل العربية متفرقة أو مجتمعة ليست ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدثفيعام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحتراية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه . وأصبحتلهمقوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش , وتتولىقيادةالبشرية , بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأللعربهذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ! نسوا نعرة الجنس , وعصبيةالعنصر , وذكروا أنهم مسلمون . مسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام , ورايةالإسلام وحدها . 
وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلىالبشريةرحمة وبراً بالبشرية ; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية
حملوا فكرةسماويةيعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه
وخرجوا من أرضهمجهاداًفي سبيل الله وحده , ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون فيظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكمالعربوإلى حكمهم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلىعبادةالله وحده , كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:"اللهابتعثنالنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعةالآخرة , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
عندئذفقط كان للعرب وجود , وكانت لهم قوة , وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانتكلهالله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا علىالطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم , وتركوا راية اللهليرفعواراية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم , لأن الله قد تركهم حيثما تركوه , ونسيهم مثلما نسوه !
وماالعرب بغير الإسلام
ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذاهمتخلوا عن هذه الفكرة
وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة
إن كل أمة قادتالبشريةفي فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرةكالتتارالذين اجتاحوا الشرق , والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغربلميستطيعوا الحياة طويلاً , إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدةالتيتقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية , وهي التي رفعتهم إلى مكانالقيادة , فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة , ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة , وأرادوا القوة ,وأرادواالقيادة . . والله الهادي من الضلال . .
7 – الخطاب وإن كان للنبي r فهو عام , أي قد رأيتم ذلك وعرفتم موضع منتي عليكم , فلماذا لا تؤمنون .
8 – شبه تدميرهم وإهلاكهم وصيرورتهم بعد قصف الطير بالحجارة بصورة قبيحة حقيرة , تدل على حقارة كفرهم وهوانهم على الله تعالى .
9 – سلط الله تعالى العذاب على أصحاب الفيل ولم يسلطه على كفار قريش الذين ملؤوا الكعبة أوثاناً , لأن أصحاب الفيل قصدوا التخريب , وهذا تعد على حق العباد , ووضع الأوثان فيها قصدوا به التقرب إلى الله تعالى , وهو تعد على حق الله تعالى , وحق العباد مقدم على حق الله تعالى .


B

المصادر

1 - إعراب القرآن وبيانه محي الدين درويش
2 - إملاء مامن به الرحمنمن وجوه الاعراب والقراء‌ات أبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري
3 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للشيخ ابو بكر الجزائري 
4 - في ظلال القرآن لسيد قطب
5 - التفسير الواضح 
6 - نظم الدرر 
7 - الكشاف عن حقائق التنزيل أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي
8 - الكشف والبيان أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
9 - البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي
10 - تفسير البيضاوي البيضاوي
11- تفسيرالخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل) علاء الدين علي البغدادي الشهير بالخازن
12 - تفسير ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

B
==========================================


([1]) إعراب القرآن وبيانه ، 10 /583 , أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 5 /527 , الظلال 6 / 243 , الكشف والبيان 297 , البحر المحيط 512تفسير البيضاوي 531 , تفسير الخازن 291 , تفسير ابن كثير 8/483
([2])إعراب القرآن وبيانه ، 10 /587 , إملاء مامن به الرحمنمن وجوه الاعراب والقراء‌ات 4 / 89 , البحر المحيط 512تفسير الخازن 296

([3]) الكشاف عن حقائق التنزيل 805 ,تفسير البيضاوي 531
([4]) ورد تفسير سجيل بالطين في كتاب الله تعالى ، فقد ورد في عذاب قوم لوط قوله تعالى : {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} [هود : 82] ، وقال عنه في موضع آخر : {لنرسل عليهم حجارة من طين} [الذاريات : 33] .، فدل على أن سجيل هو الطين .

([5]) الظلال 6 / 243 , التفسير الواضح 3 / 905 , نظم الدرر 8 / 781 , الكشاف عن حقائق التنزيل 804 , الكشف والبيان 289 , تفسير البيضاوي 531 , تفسير الخازن 292 , تفسير ابن كثير 8/483-486
([6]) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 5 /527 , الظلال 6 / 243 , الكشاف عن حقائق التنزيل 805 , تفسير البيضاوي 531 – 532 , تفسير الخازن 296 , تفسير ابن كثير 8/487
([7]) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 5 /527 , الظلال 6 / 243 , تفسير الخازن 296